الخميس، 3 أبريل 2014

رسالة للشيوخ في مصر حول محنة أهل العلم بخراسان ..


رسالة للشيوخ في مصر حول محنة أهل العلم بخراسان ..

كتب : أحمد العزيزي
3/4/2014
الشيخ أحمد العزيزي


لم يسلم الأستاذ القشيري كما هو حال أغلب صلحاء هذه الأمة من المحن والآلام وكما قال صلى الله عليه وسلم « أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل » وكانت بداية محنة القشيري في فترة حكم السلطان طـُغرُل ووزيره ابن الكندريّ عليه من الله تعالى ما يستحق هو ومن شابهه وتبع بدعتهم. فقد كان السلطان طغرل سنيا حنفيا أما وزيره أبو نصر الكندريّ فكان معتزليا رافضيا خبيث العقيدة ذا آراء مسرفة في التشبيه وخلق الأفعال والقدر وكان متعصّبا في ذلك أشدّ التعصّب.
ففي زمان الخليفة العباسي القائم بأمر الله كان للسلطان طغرلبك السلجوقي -وهو أول ملوك السلجوقية- وزير سوء يُدعى أبو نصر منصور بن محمد الكندري، يقول التاج السبكي في وصفه: "كان معتزليا رافضيا خبيث العقيدة لم يبلغنا أن أحدا جمع له من خبث العقيدة ما اجتمع له فإنه على ما ذكر كان يقول بخلق الأفعال وغيره من قبائح القدرية وسب الشيخين وسائر الصحابة وغير ذلك من قبائح شر الروافض وتشبيهه الله بخلقه وغير ذلك من قبائح الكرامية والمجسمة وكان له مع ذلك تعصب عظيم".
انظر أخي القارئ كيف جمع هذا المفتون شر العقائد على تناقض الملل التي حملتها، فهو في مسألة الكلام معتزلي وفي مسألة الصفات مجسم وفي مسألة القدر قدري يقول: "لا قدر بل الإنسان يخلق أفعاله" ورافضيا يسب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بل ويسب سائر الصحابة.
وقد حصل أن أمر السلطان طغرلبك السلجوقي بأن تلعن المبتدعة على المنابر فاتخذ الكندري ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية وصار يقصدهم بالإهانة والأذى والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلهم عن خطابة الجامع واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنهم يقلدون مذهب أبي حنيفة أشربوا في قلوبهم فضائح القدرية واتخذوا التمذهب بالمذهب الحنفي سياجا عليهم فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموما وبالأشعرية خصوصا وهذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق وعظم خطبها وبلاؤها وقام في سب أهل السنة خطباؤها وسفهاؤها إذ أدى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنة فى الجمع وتوظيف سبهم على المنابر واستعلى أولئك السفهاء في المجامع والمراتب.
وفي هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذة لها في أوساط العامة والخاصة نفوذ ومحبة فائقة وهو الأستاذ أبو سهل ابن الموفق وكان كثير المال مرموقاً بالوزارة وداره مجمع العلماء وملتقى الأئمة والفضلاء , ونظراً لما عرف عنه من تعلق بالمذهب الأشعري والزود عنه وله السعي الحثيث في نشره لذا فقد ألهب هذا حقد الوزير الكندري الخبيث وخاصة أنه كان يخشى أن يقع اختيار السلطان عليه للوزارة من دونه فمضى يلفق لدى السلطان عنهم التهم ولم يكتفي بذلك بل لجأ لحيلة دنيئة , حين حصل على تفويض من السلطان بسب المبتدعة على المنابر ولم يجد السلطان في ذلك بأس , ولكن الكندري الخبيث إستغل هذه الموافقة فأقحم بإسم أبو الحسن الأشعري ضمن المبتدعة الواجب سبهم, وكان كل من يرفض ذلك والإنصيلع له من الوعاظ والخطباء يكون مصيره الفصل من عمله والطرد من البلاد, فنجم عن ذلك شر خطير وفتنة عظيمة كبرى إمتد شررها إلى سائر بلاد المشرق, وبات الأشاعرة في هذه البلاد في حزن وهم وغم.
وذات يوم كئيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على الإمام القشيري وعلى إمام الحرمين أبو المعالي الجويني والرئيس الفراتي وأبي سهل الموفق !!
ولما كان الخصم هو الوزير الحاكم وكان السلطان محجبا إلا بوساطة ذلك الوزير وجاء الأمر من قبل السلطان طغرلبك بالقبض على الرئيس الفراتي والأستاذ أبي القاسم القشيري وإمام الحرمين وأبي سهل بن الموفق ونفيهم ومنعهم عن المحافل، فحُبس الفراتي والقشيري ومن قبلها حين قرأ كتاب السلطان هجم جماعة من الأوباش والسفلة على الأستاذين القشيري والفراتي وأخذوا يجرونهما في الطرقات ويكيلون لهم الضرب وأقذع أنواع السباب والتهم والتهكم والتهوك والإستخفاف حتى أخذتهما الشرطة إلى مجلس القهندر, أما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر واختفى وخرج على طريق كرمان الى الحجاز ومن ثم جاور وسمي إمام الحرمين , وبقي السجينان الجليلان في المحنة والمحبس وقامت جماعات كثيرة جداً من الناس لأنقاذهما وحدثت حروب ومقاتلات دامية بينهم وبين رجال السلطان ,بينما كان أبو سهل غائبا فلما عاد –وكان ممدحا جواداً ذا أموال جزيلة وصدقات دارة وهبات هائلة ربما وهب الألف دينار لسائل وكان مرفوقا بالوزارة وداره مجتمع العلماء ملتقى الأئمة من الفريقين الحنفية والشافعية فى داره يتناظرون وعلى سماطه يتلقمون وكان عارفا بأصول الدين على مذهب الأشعري قائما فى ذلك مناضلا في الذب عنه وكان هذا مما عظم على الكندري بما في نفسه من المذهب ومن بغض ابن الموفق بخصوصه وخشيته منه أن يثب على الوزارة- فلما عاد ابن الموفق جمع رجالا له عارفين بالحرب فأتى باب البلد وطلب إخراج الفراتي والقشيري ولم يلتفت إلى ما تقدم من مرسوم السلطان طغرلبك فواجهه متولي البلد فانقضت ترهات الباطل ثم حمل أصحاب ابن الموفق على أولئك حملة رجل واحد فهزموهم بإذن الله وجرحوا أمير البلد وهموا بأسره ثم توسط الناس ودخلوا على أبي سهل فى تسكين الفتنة وإطفاء الثائرة وأتوا بالأستاذ والرئيس إلى داره وقالوا قد حصل القصد وأخرج هذان من الحبس فلما انتصر أبو سهل وتم له ما ابتغى تشاور هو وأصحابه فيما بينهم وعلموا أن مخالفة السلطان لها تبعة وأن الخصوم لا ينامون فاتفقوا على مهاجرة البلد إلى ناحية أستواء ثم يذهبون إلى الملك وبقي بعض الأصحاب بالنواحي مفرقين وانتهى إلى السلطان ما جرى وسعى بأصحاب الشافعي وبالإمام أبي سهل خصوصا فقبض على أبي سهل وحبس فى بعض القلاع وأخذت أمواله وبيعت ضياعه ثم فرج عنه وخرج وحج.
ترك الإمام القشيري بيته ووطنه وأهله وعشيرته ومضى يضرب في الأرض الواسعة عشر سنوات وكان هذا الحدث في مطلع عام خمسة وأربعين وأربعمائة.
وكان الإمام القشيري خلال هذه الفترة الطويلة قد نزل البلاد من بلد إلى بلد وكان موضع تكريم الحكام والسلاطين وموضع حفاوة سائر الخلق الذين استفادوا من الإمام الكثير والكثير وأقبل عليه الناس لحضور مجلسه ودرسه إقبالاً منقطع النظير.
حتى خصص له الخليفة العباسي القائم بأمر الله مجلساً خاصاً في مسجد قصره وكان كثيراً ما يدخله عليه ديوانه لأكرامه ومشاورته وكان مواظباً على شهود درسه ووعظه ومجلس حديثه.
ولقد استفاض الخطيب البغدادي في تاريخه في وصف إعجاب الناس بالقشيري وكان هو نفسه أحد تلاميذه ومن تلقوا العلم عنه , رحمهما الله تبارك وتعالى.
وشملت رحلة القشيري العديد من البلاد إلى أن أتى عليه موسم الحج , فذهب للحجاز وهناك إلتقى بتلميذه وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين , وبعدد كبير من العلماء والأئمة الذين شردتهم المحنة طوال هذه السنوات فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم واستقر أمرهم على أن يطيعوا كلمة الإمام القشيري فيهم.
وتحت عنوان [ذكر أمور اتفقت فى هذه الفتنة وكيف كان حال علماء المسلمين واغتمامهم بها] كتب التاج السبكي: "أما أهل خراسان من نيسابور ونواحيها ومرو وما والاها فإنهم أخرجوا فمنهم من جاء إلى العراق ومنهم من جاء إلى الحجاز، فممن حج الحافظ أبو بكر البيهقي والأستاذ أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وخلائق يقال جمعت تلك السنة أربعمائة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية هجروا بلادهم بسبب هذه الواقعة".
وبعد انتهاء موسم الحج تشتت فكر أولئك العلماء والقضاة الذين هجروا بلادهم وهاجروا بدينهم من سطوة وزير السوء المسمى بالكندري وترددوا في الرجوع مع مواكب الحجاج فمن عازم على المجاورة ومن محير فى أمره لا يدري أين يذهب.
ثم اتفقت كلمتهم على أن الأستاذ أبا القاسم يعلو المنبر ويتكلم عليهم قيل فصعد وشَخَصَ فى السماء زمانا وأطرق زمانا ثم قبض على لحيته وقال: "يا أهل خراسان بلادكم بلادكم إن الكندري غريمكم قطِّع إربًا إربًا وفُرِّقَتْ أعضاؤه وها أنا أشاهده الساعة"
وأنشد:

عميدَ الملك ساعدك الليالي * على ما شئت من درك المعالي
فلم يك منك شيء غير أمرٍ * بلعن المسلمين على التوالي
فقابلك البلاء بما تلاقي * فذقْ ما تستحق من الوبالِ
وعميد الملك هو لقب الكندري المفتون، فضبط التاريخ فكان فى ذلك اليوم بعينه وتلك الساعة بعينها قد أمر السلطان –الذي وليَ بعد طغرلبك وهو ألب أرسلان- بأن يُقَطَّعَ الكندريّ إربا إربا وأن يوصل إلى كل مكان منه عضو يدفن فيه ففُعل به ذلك.
فهذا ما كان من الفتنة وكان السلطان طغرلبك مع دينه وخيره ممن لم يمهله الله بعد إذنه بالسب وبحبس القشيري ولم يمكث بعد هذه الواقعة الشنيعة واتفاق هذه الفضيحة الفظيعة إلا زمنا يسيرا وتوفي وتسلطن بعده السلطان الأعظم عضد الدولة أبو شجاع ألب أرسلان. ولم يلبث الكندري إلا يسيرا وقُتل شر قتلة وجعل كل جزء من أعضائه فى ناحية.
وأسفر صباح الزمان عن طلعة الوزير "نظام الملك" فقام فى نصرة الدين قياما مؤزرا وعاد الحق معززا موقرا وأمر بإسقاط ذكر السب وتأديب من فعله.

المرجع: طبقات الشافعية للتاج السبكي.
وكتابي : الروضة القشيرية

#أحمد_العزيزي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إن شاء الله سقرر المشرف نشره بعد مراجعته
حياكم الله تعالى وجزيتم خيرا لتفاعلكم